هل هناك هوروسكوب لتاريخ الوفاة؟ هل هناك أبراج\\رموز تجمع تحت كنفها كل من توفيّ في نفس الدورة من دوران الواكب؟ دار في ذهني هذا التساؤل عند وصولي نبأ وفاة الصيدليّ الفلسطينيّ فخري جداي في يافا يوم بعد من وفاة غابرييل غارسيا ماركيز. اتّسمت مسيرة الإثنين في عزلة هائلة في باطنهما، كان يُفرج عنها ببعض الأحاديث وتعابير الوجه (مثلما هو حال الكثيرين من عاشوا القرن العشرين القصير من أوّله لآخره وشهد أحداثه العجيبة)، وبعض الكتابات هنا وهناك، مثل تقرير للأمم المتحدة عن عزلة الفلسطينيّين في ظلّ الحكم العسكري في أرضهم بعد قيام إسرائيل، أو رواية ملحمية عن عزلة قارة بأسرها عبر مئات السنين. فلكلّ منّا، بالآخر، عالمه وكواكبه الخاصة به.
ما تبقّى لنا اليوم، ونحن على عتبة قرن قد يكون أعجب وأطول من الذي قبله، ونحن نعيش الأحداث المؤسفة التي حذّر منها فخري وغابو، أي فقدان الذاكرة، انتشار الأسلحة النووية والذكية، واحتقار حياة البشر، الأحياء والأموات منها على حد سواء؟
كتب غابرييل غارسييا ماركيز هذه المقالة في أعقاب ارتكاب مذبحة صبرا وشاتيلا، ونُشر في صحيفة "إل إكسبريسو" الإكوادورية في الثالث من تشرين أول أكتوبر، أي ثلاثة أسابيع قبل حصوله على جائزة نوبل للآداب من الأكاديمية السويدية. نُشرت هذه الترجمة العربية في ملحق صحيفة الإتحاد الحيفاوية عام 2008.
شادي روحانا
مناحم بيغن وأريئيل شارون: لهما جائزة نوبل للموت!
غابرييل غارسييا ماركيز
منح جائزة نوبل للسلام لمناحم بيغن هو أمر لا يصدّق. المهم أن بيغن هو فعلا صاحب هذه الجائزة ولا سبيل الآن لتبديل ما حدث؛ فهو صاحب الجائزة منذ منحه إياها عام 1978 مع الرئيس المصري آنذاك أنور السادات عند توقيعهما، على انفراد، اتفاقية السلام في كامب ديفيد. لم يحظ الاثنان بنفس المصير: فمصير السادات كان التبرّؤ الفوري منه في العالم العربي، ولاحقا قتله؛ أمّا بالنسبة لبيغن، فالاتفاقيّة خوّلت له المباشرة بمشروع استراتيجي لم يختتم بعد، والذي أشبع قبل أيام قليلة بمجزرة وحشيّة لأكثر من ألف لاجئ فلسطيني في احد مخيّمات بيروت. لا توجد جائزة نوبل للموت، ولكنّها إذا وُجدت فقد تُمنح هذا العام، وبدون منافسة، لمناحيم بيغن وسفّاحه المحترف أريئيل شارون.
اليوم، وبعد تكشّف الأحداث، نستطيع فهم غاية بيغن الوحيدة والمتستّرة خلف ستار كامب ديفيد: القضاء على منظّمة التحرير الفلسطينيّة و بناء مستعمرات إسرائيلية جديدة في الضفة الغربية. بالنسبة لنا- نحن الذين بوسعنا تذكّر ممارسات النازيّة- مشروع بيغن يعتمد على ركيزتين تثيران لدينا ذكريات فظيعة: نظريّة "المجال الحيوي"، التي أراد بها النظام النازي أن يبسط إمبراطوريته على امتداد نصف العالم؛ وأما الركيزة الثانية فهي ما سمّاه هتلر بـ"الحل النهائي" لمشكلة اليهود، والتي حملت بأكثر من ستة ملايين من البشر إلى معسكرات الإبادة.
مشروع اتّساع رقعة المجال الحيوي لدولة إسرائيل ومشروع الحل الأخير للقضية الفلسطينيّة- كما يفهمهما صاحب جائزة نوبل للسلام للعام 1978- بدءا في ليلة 5 حزيران الأخيرة؛ في تلك الليلة، اجتاحت لبنان قوّات عسكريّة مختصّة في علم الدمار والإبادة. إستراتيجية بيغن واضحة اشدّ الوضوح: هو يريد القضاء على منظمة التحرير الفلسطينيّة، وبهذا يقضي على الشريك الفلسطيني الوحيد الذي بإمكانه التفاوض على إقامة دولة فلسطينيّة مستقلّة في الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة، أراضي التي سبق بيغن وأعلنها كأراضٍ يهوديّة.
كنت في باريس يوم اجتاحت الجيوش الإسرائيلية لبنان. كنت هناك أيضا عندما قام الجنرال جاروزلسكي، قبل عام، بفرض القوّة العسكريّة ضد إرادة الأغلبيّة من الشعب البولندي. وصدفة وجدت نفسي أيضا هناك عندما اجتاحت الجيوش الأرجنتينية جزر المالفيناس ("الفوكلاند"). تصرّف وسائل الإعلام، والمثقّفين وكذلك الرأي العام خلال هذه الأحداث أظهر لي معادلة مقلقة: بينما نُظّمت في باريس أمسية تضامن مع بطولة الشعب البولندي (وكنت أنا من الموقعين على بطاقة الدّعوة)، كان هناك شبه إجماع على الصمت عندما قامت الجيوش الإسرائيلية الدمويّة باجتياح لبنان (وكان الصمت حتى بين الأكثر متحمّسين لقضيّة بولندا، على الرغم من أنه من المستحيل مقارنة عدد الضحايا وحجم الدمار بين بولندا ولبنان). أكثر من ذلك، فعندما استردّت الأرجنتين جزر المالفيناس من بريطانيا لم تنتظر الأمم المتحدة يومين على أن تطلب من القوّات الأرجنتينيّة الانسحاب، وكذلك لم تفكّر السوق الأوروبية مرّتين قبل فرض عقوبات اقتصاديّة على الأرجنتين، وفي المقابل، في حالة لبنان، لا الأمم المتّحدة ولا السوق الأوروبي طالبا بانسحاب الجيوش الإسرائيلية. حذر الاتّحاد السوفييتي غير المفهوم وانعدام الأخويّة بين الدول العربيّة شكّلا جاهزيّة وجود الشروط الكافية للحرب الوحشيّة التي شنّها بيغن والجنرال شارون. لدي العديد من الأصدقاء الذين أرادوا ويريدون إسماع العالم بأسره صرخة قويّة ضد "كرنفال الدم" في لبنان، ولكنّهم يهمسون لي خوفهم من توجيه تهمة اللاساميّة لهم؛ هل يعي هؤلاء بأنّهم هكذا يسلّمون أرواحهم لابتزاز غير مقبول؟
لنقل الحقيقة: لا يوجد أي شعب في العالم بقي لوحده مثلما بقي الشعبان اليهودي والفلسطيني لوحدهما وسط هذا الرعب والذعر. منذ اجتياح لبنان يتم تنظيم مظاهرات شعبيّة في تل- أبيب ومدن إسرائيلية أخرى؛ قبل أسبوع فقط تظاهر 400 ألف إسرائيلي ضد هذه الحرب القذرة التي، بالنسبة له، هي ليست بحربه، وكذلك ليست هي بحرب حكم بها إلهه، ذلك الإله الذي رضي بتعايش الفلسطيني مع اليهودي على مدى القرون. دولة إسرائيل يقطنها ثلاثة ملايين من البشر، فمظاهرة الـ 400 ألف هناك هي مظاهرة الثلاثين مليونًا في واشنطن.
كل مرّة أسمع فيها عن البيغينات والشارونات في لبنان أو أي قطر آخر بالعالم أتذكّر تلك المظاهرة الباطنيّة، تلك المظاهرة التي أريد ضمّ صوتي إليها، والذي هو صوت حب وتقدير لشعب عرفته فقط من خلال قراءة التوراة ولم أعرفه قط في أيامنا هذه. فإني لا أخاف الابتزاز باللاساميّة مثلما لم أخف أبدا الابتزاز باللاشيوعيّة، فهما منوافدان وأحيانا متعاقبان ويزرعان بذور ذات الفساد في عالمنا التعيس.
[ترجمة شادي روحانا]